Abstract:
ملخص أطروحة :
اتجهت الدول النامية بغية انجاز عملية الإنماء الاقتصادي فيها إلى جذب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، فهي تمكنها من استغلال مواردها الطبيعية، كما تساهم في تنمية بنيتها التحتية كالاتصالات والطرق والمطارات، وكذالك تدريب الأيدي المحلية العاملة، وتنمية وتطوير الصناعات من خلال ما تقدمه من أصول متنوعة منها رأس المال والتكنولوجيا والقدرات والمهارات الإدارية والوصول إلى الأسواق الأجنبية.
تلجأ الدول عادة أو أحد مؤسساتها لأجل هذا الغرض، إلى إبرام العقود مع أصحاب رؤوس الأموال من الأجانب بحسب ما تقتضيه خططها التنموية، كعقود استغلال ثرواتها الطبيعية، وعقود نقل التكنولوجيا وعقود بناء المصانع وعقود الأشغال التي تستلزمها لبنيتها التحتية وعقود امتياز المرافق العامة وعقود المساعدة والاستثمارات الفنية .... إلخ مما يدخل في إطار عقود الاستثمار.
تنشأ هذه العقود المبرمة بين الدولة والأطراف الأجنبية المتعاقدة معها مجموعة من الحقوق والالتزامات على عاتق أطرافها، فهي تعطى للدولة المتعاقدة الحق في ممارسة نوعا من الرقابة والإشراف على عمليات الشركات الأجنبية المتعاقدة وأنشطتها، وذلك حتى تتأكد الدولة من قيام الشركة بأداء التزاماتها وفقا لما هو متفق عليه في العقد، كما لها الحق في إنهاء العقد وإلغائه.
لا تمنح عقود الاستثمار الدولة المتعاقدة حقوقا تمثل التزامات على عاتق الأطراف الأجنبية المتعاقدة مع الدولة فقط، بل تنشئ هذه العقود أيضا مجموعة من الالتزامات على عاتق الدولة اتجاه الطرف الأجنبي (المستثمر الأجنبي) كالتزام الدولة المتعاقدة بمساعدة المشروع الأجنبي من أجل قيامه بالاستثمار على إقليمها، وتوفير الحماية الكافية له.
وفي المقابل تمنح عقود الاستثمار كذلك حقوقا والتزامات على عاتق المستثمر الأجنبي، كحقه في الاستعانة بالفنيين والخبراء والإداريين غير الحاملين لجنسية الدولة المضيفة وذلك لتنفيذ العمليات اللازمة لمشروع المستثمر وحقه في التمتع بالإعفاءات الجمركية، كما تتضمن غالبية عقود الاستثمار نصوصا تجيز للشركات الأجنبية الطرف في العقد، من حيث المبدأ أن تتنازل عن كل أو بعض من حقوقها والتزاماتها الناشئة عن العقد إلى شركة أخرى، سواء كانت تابعة لها أو مستقلة عنها، وفي الوقت ذاته، يلتزم المستثمر الأجنبي بالتنمية البشرية و تدريب العمالة المحلية، واحترام القواعد الفنية في المجال محل التعاقد، وإمداد الدولة بأفضل المواد وأكثرها مناسبة للمشروع محل التعاقد واستخدام التكنولوجيا المتطورة، والتزامه بالإعلام والإخبار ومكاشفة الدول بكافة الظروف المحيطة بالموضوعات محل التعاقد
فمن الثابت أن العلاقة بين المستثمر الأجنبي والدولة المضيفة، وإن ظهرت حسنة في بدايتها، إلا أنها سرعان ما تتبدل نتيجة لتعارض المصالح بين الطرفين مما يؤدي إلى قيام منازعات بينهما، وتتنوع الأسباب المؤدية إلى قيامها ما بين أسباب قهرية لا دخل لإرادة أحد الطرفين فيها، أو هي أسباب طوعية نابعة من الإرادة المنفردة للأطراف، وفي غالبية الأحيان تكون الإجراءات الانفرادية نابعة من إرادة الطرف الأقوى وهو الدولة.
نتيجة لعدم التكافؤ في المركز القانوني للأطراف المتعاقدين - أحد المتعاقدين طرف عام وهي الدولة أو الجهاز العام الذي يمثلها، والدولة هي شخص دولي ذو سيادة يتمتع بمزايا خاصة سواء في إطار القانون الخاص أو في إطار القانون الدولي العام، أما الطرف الثاني فهو طرف أجنبي خاص، وهو شخص (طبيعي أو اعتباري) لا يتمتع على الرغم من قوته الاقتصادية والمالية بأية صفة سيادية، كما أنه لا يعد شخصا من أشخاص القانون الدولي العام- كان من الضروري البحث عن هيئة دولية تتولى الفصل في المنازعات الاستثمارية بين الدولة ومواطني الدول الأخرى، تسمح للأشخاص الخاصة بالإدعاء أمامها مباشرة ضد الدول المضيفة للاستثمار.
يعتبر وجود نظام محايد وفعال لتسوية منازعات الاستثمار ما بين الدول المضيفة والمستثمرين الأجانب من أهم عناصر الجذب للاستثمارات الأجنبية الخاصة، حيث أن التسوية النزيهة والفاعلة لهذه النزاعات تمثل عنصر أمان للمستثمرين، هذا ما دفع البنك الدولي، وهو من أهم المؤسسات الدولية المعنية بالتنمية الاقتصادية، إلى القيام بمبادرة جديدة في الستينيات من القرن العشرين، بهدف إيجاد جو من الثقة المتبادلة بين الدولة المضيفة والمستثمرين الأجانب لتشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة.
وعلى هذا الأساس رأى المديرون التنفيذيون في البنك الدولي، أن ما يساعد على بلوغ الهدف هو إنشاء وسيلة دولية للفصل بين الحكومات ومواطني الدول الأخرى، ومن أجل ذلك أعلن رئيس البنك الدولي (يوجين بلاك) عام 1961، أنه سوف تجري دراسة تحت رعاية البنك الدولي للنظر في إمكانية إنشاء جهاز دولي يهدف إلى تسوية منازعات الاستثمار دون مغالاة في النقاش الإيديولوجي.
وعلى ضوء هذه الدراسات، تم التوصل في الثامن عشر من مارس 1965 إلى صيغة مقبولة لاتفاقية دولية متعددة الأطراف تنشئ مركزا دوليا لتسوية منازعات الاستثمار، وذلك بإتباع أسلوبي التوفيق والتحكيم، بدف إيجاد نوع من الثقة المتبادلة بين الدول المضيفة للاستثمار والمستثمرين الأجانب.
ولكي ينعقد اختصاص المركز للنظر في المنازعات الاستثمارية وتسويتها، لابد من توافر ثلاثة شروط رئيسية، تتمثل في رضا الأطراف وموافقتهم على إحالة النزاع إلى المركز للتسوية، والذي يعد حجر الزاوية لانعقاد هذا الاختصاص، وأن يكون النزاع قانونيا ناشئ مباشرة عن الاستثمار، وان يكون أحد طرفي النزاع الدولة المضيفة للاستثمار أو دولة جنسية المستثمر على الأقل طرف في اتفاقية واشنطن.
نظمت الاتفاقية وسيلتين لتسوية المنازعات الاستثمارية أمام المركز الدولي هما التوفيق والتحكيم، حيث يمكن المركز أطراف النزاع من اختيار ما يلائمهم ويناسب طبيعة منازعتهم من الوسائل التي يتيحها المركز من وسائل التسوية السلمية.
فالتوفيق هو عملية تسوية للمنازعة وديا بتدخل طرف ثالث يقوم بهذه التسوية بين طرفي النزاع محاولا تقريب وجهات النظر بينهما، دون أن يمتد دوره إلى إصدار قرار ملزم لأطراف النزاع.
وعلى الرغم مما يتسم به التوفيق كإجراء ودي للتسوية، إلا أنه يمكن القول بأن هذه الوسيلة لم تكن ذات جدوى في الأوساط الاستثمارية، وو الأمر الذي يفسر لنا كثرة المنازعات التي عرضت على التحكيم
يلعب التحكيم دورا هاما في حسم المنازعات التي يمكن أن تثيرها عقود الاستثمار، إلى درجة أن البعض يعتبره أمرا حتميا بشأن هذه الطائفة من العقود وأنه أصبح القضاء الطبيعي في هذا المجال.
حيث يفضل الأطراف في عقود الاستثمار اللجوء إلى التحكيم في حسم منازعاتهم، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب يتعلق بعضها بما يتمتع به التحكيم من مزايا تتناسب مع طبيعة منازعات عقود الاستثمار، كما يتعلق بعضها بمخاوف المستثمرين الأجانب من اللجوء إلى قضاء الدولة للاستثمار، وبعضها الآخر يتعلق بكون التحكيم ضمانة إجرائية لكونه إحدى وسائل اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومن ناحية أخرى يضمن التحكيم لدى المركز ميزة السرية لأطراف النزاع، فغالبا ما تتم إجراءات التحكيم في سرية تامة وذلك من أجل الحفاظ على الثقة التي تقوم عليها العلاقات والتي يسعى الأطراف إلى الاحتفاظ بسرية جوانبها المختلفة نظرا للحساسية والحرص اللذين يصاحبا العقود الدولية على وجه الخصوص.
وينتج أيضا عن عمليات التحكيم أحكاما نهائية ملزمة لأطراف النزاع، بل وتذهب منظومة إجراءات التحكيم لدى المركز إلى الحد الذي تلزم فيه هذه المنظومة أطراف الاتفاقية المنشئة للمركز جميعهم، وليس فقط أطراف النزاع المعروض على محاكم المركز، بالاعتراف بالأحكام الصادرة من محاكم المركز بصفتها أحكام نهائية وملزمة لهم كما لو كانت صادرة من المحاكم الوطنية للدول أطراف هذه الاتفاقية، كما أنه إذا حدث نزاع أو خلاف على تنفيذ هذه الأحكام فتقوم دولة جنسية المستثمر، نيابة عن مواطنها وهو الطرف الأخر في النزاع، برفع الأمر إلى محكمة العدل الدولية للفصل في هذا النزاع، وعلى هذا فالمركز الدولي مستخدما وسيلة التحكيم يضمن للأطراف التوصل إلى تسوية عادلة للنزاع القائم بينهم وذلك شريطة انصياع هذه الأطراف مع ما يصدر عن أحكام محاكمه.
ولذلك فإن أي تعطيل لهذه الأحكام إنما ينتج من الأطراف أنفسهم، على سبيل المثال تمسك الدولة بحصانتها القضائية في مواجهة الأحكام الصادرة عن محاكم المركز كذلك وضع العقبات التي تحول دون تنفيذ هذه الأحكام.
وبالتالي فوسيلة التحكيم كغيرها من الوسائل السلمية تقوم على أساس رغبة الأطراف الصادقة في التوصل إلى تسوية سلمية للمنازعات القائمة بينهم، وبالتالي فإن أي فشل في التوصل لهذه التسوية إنما ينبع أساسا من رغبة هؤلاء الأطراف أنفسهم، فهؤلاء الأطراف هو الذين يتوقف عليهم نجاح عملية تسوية النزاع أو إخفاقها.