Résumé:
إن فهم الطبيعة البشرية يعد عملا معرفيا كبيرا في تاريخ العلم، لأنه يتعلق بتفسير الأفكار والسلوكات الناتجة عن تحديد موضوعي لما يمكن أن يكون "مطابقا" للطبيعة "الخالصة" للنوع البشري، غير أن عدم قدرتنا على توقع ما يمكن أن يحدثه البشر في التاريخ يدفع إلى إعادة النظر في مسألة التطابق مع ما نفترض أنه "سلوك طبيعي" ؛ وهذا ينعكس على مستويين من الطبيعة البشرية:
أ) الطبيعة البيولوجية: حيث لا يمكن توقع بعض التطورات البيولوجية في جسم الإنسان مثل الانقسامات الخلوية غير المنتظمة (السرطانات) أو التشوهات الخلقية المتأخرة... والتي نعدها طفرة في الطبيعة البشرية، غير أن الخريطة الجينية اليوم يمكنها أن تساعدنا، لا سيما في علم اليوجينيا (تحسين النسل)، على توقع تلك الإختلالات البيولوجية بما يمكن من "تعديل" تلك الطبيعة أو منعها من تطوير تلك الطفرات أو تثبيط البروتين المكون للجينوم المسؤول عن ذلك.
ب) الطبيعة النفسية: من خلال دراسة معدلات الذكاء، علاج أمراض التوحد والمشكلات الأرطوفونية المنتشرة.. والتي تمثل علامات على عجز في فهم الطبيعة البشرية، إذ كيف يتحول بعض مرضى التوحد أو التأخر في الكلام أو الصرع.. إلى عباقرة بما لا يدع مجالا للعلم في توقع شخصية الإنسان أو فهم سلوكه المستقبلي، بينما يقدم على الجينوم أجوبة عن تلك الأسئلة في صورة المعلومات المخزنة في الجينات المرتبطة بتلك السلوكات وغيرها.
بيد أن هذا التطور الهائل الذي يشهده علم الجينوم اليوم يطرح تحديات خطيرة وإشكاليات مركزية تتجاوز المستوى العلاجي إلى البعد الأخلاقي والأنطولوجي، فإلى أي مدى يمكن للتقنية الحديثة أن تطمس هوية الإنسان وتمسّ بطبيعته الإنسانية؟ وهل ستحوّل التطبيقات البيولوجية في القريب العاجل الجسد البشري إلى مجرد عينة في مختبرات التجارب؟
إن الرهان المعرفي يكون في ربط علم الجينوم بما يمكن للفلسفة أن توضحه عن الطبيعة البشرية بدءا بالفصل بين ثبات للنموذج البشري عبر التاريخ والذي يمكن لعلوم أخرى كالأنتروبولوجيا أن تحلله (أعمال كلود ليفي شتراوس) حيث بنية العقل البشري ثابتة منذ ما قبل التاريخ، وبين إمكانية "تحوّل" الطبيعة البشرية، وهذا الطرح يجعلنا نضع مسألة الجينوم وعلاقته بالطبيعة البشرية في إطار التصورات الفلسفية عنها منذ أرسطو مرورا بديكارت ودافيد هيوم وصولا إلى رورتي وهابرماس ضمن المفاهيم الأساسية للجمال والقيم الأخلاقية بالإضافة إلى المنظورات البراغماتية والعلمية والتجريبية وغيرها، كما في تصورات الأخلاق الإسلامية النابعة من رؤى فقهية أوصولية أو اجتهادية.
تهدف هذه الدراسة إلى فهم العلاقة بين الجينوم والطبيعة البشرية وتحديد الارتباطات المفهومية بينها في ضوء القراءات الفلسفية وفلسفة العلم بالخصوص، وفي ضوء الأخلاق الإسلامية