Résumé:
منذ أن تم اكتشاف بنية الدي أن إي سنة 1953، تغيّر فهمنا للبيولوجيا البشرية بشكل كوبرنيكي، وأصبح الجينوم يمثل "شيفرة الحياة" الأساسية لأنه يقدّم سلسلة المعلومات الخاصة بالأصول الوراثية وتاريخ الأمراض ومستقبل "الحياة" البيولوجية للأعضاء.. وغيرها.. إلى أن وصلنا إلى الأبحاث العلمية المعاصرة التي تهدف لجعل الكائن البشري أطول عمرا فيما يسمى بـ"تمديد الحياة"، من خلال العمل على تعديل (أو تعطيل) الجينات المسؤولة عن الشيخوخة من جهة، والبحث في الجينوم عمّا يسمح بمقاومة أكبر للأمراض والرفع من قدرة الجسم على عيش مزيد من الزمن خارج المعدلات "الطبيعية" لحياة الإنسان.
في هذا السياق يمكننا أن نضع مسألة "جينوم الحياة " ضمن سياق إسلامي عندما نربط الحديث النبوي "إنما أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلّهم من يجاوز ذلك" والمعطيات التاريخية التي توفرها لنا المصادر (القرآن، السنة، الأثر...) والتي تتحدث عن بشر عاشوا مئات السنين (نوح 950 سنة) وغيرها من الأمثلة كثير؛ ممّا يعني أن تحوّلاتٍ "طبيعية" تكون قد طرأت على الجينات المسؤولة عن معدل العمر لدى الإنسان وبالتالي فإن البحث في "تمديد معدلات الحياة" في حدّ ذاته قد لا يعتبر عملا غير أخلاقي في إطار القيم الإسلامية أو في الإطار العقلاني للتفكير العلمي والفلسفي، غير أن الانعكاسات الأخلاقية على المجتمع هي التي ستكون محلّ مساءلة.
تطرح مسألة "تمديد الحياة" عبر تعديل "الجينوم"، مشكلات أخلاقية وفلسفية تتعلق بالتغيّرات المحتملة على "الحياة" نفسها أي على البنية الاجتماعية للحياة اليومية وعلى التجارب المعيشية وما يرتبط بها من انعكاسات على القيم والمعايير التي تتحكم بسيرورة التاريخ، فتمديد الحياة لدى الناس يعني تمديد "تاريخ" يتشكّل وينتهي بالأعمار "الطبيعية" ويُخلّف الذاكرة بما هي عليه اليوم؛ فهل هذا "التاريخ المُمدّد" خطر على البشرية، حيث يمكن أن ينفلت منّا بما لا يمكن توقّعه، أم هو إمكانيةٌ جديدة للانفتاح على تجربة مضافة إلى الحياة؟
كما أن ثورة جينوم الحياة تسمح لنا بالتساؤل عمّا إذا كانت معدلات الأعمار "الحالية" هي الحدّ الأقصى لعيش الحياة بكامل أبعادها وما إذا كانت مُناسِبة لإنجاز الإنسان لمَهمَّته في "تعمير الأرض" وإنتاج القيم المرافقة لذلك؟ وهل تعني الهندسة الجينية هندسة للحياة نفسها؟
تبحثُ هذه الدراسة في العلاقة بين "الجينوم" و"الحياة" و"التاريخ" من خلال "تأويل" الظواهر الاجتماعية والثقافية الناتجة عن عملية "التمديد الجيني للحياة" والانعكاسات الأخلاقية على اليومي الإنساني بما يجعلنا نفترض أن جزءاً مُهمّا من "التاريخ البشري" يكون قد تشكل أو "كُتب" داخل الرموز الجينية وأنَّ الحياة في بعض أشكالها هي ترجمة لهذا التاريخ المكتوب والمُرمّز، وهذا يجعلنا نعتقد أن "تمديد الحياة" يمكنه أن يغيّر مجرى التاريخ إلى وجهات غير متوقعة، كما يمكنه أن يغيّر تصوراتنا عن القيم الإنسانية نفسها لأنها مرتبطة بالوعي المحدود في الزمان العمري؛ فإذا كان لهذا التمديد الجيني للحياة "آثاراً جانبية" على المستوى البيولوجي (الطبي) فإن له آثاراً جانبية على المستوى الأخلاقي والإنساني، لأن عمليات التفكير والإحساس وإنتاج القيم المعرفية والأخلاقية المرتبطة بأفق زمني محدود بالسبعين أو الثمانين سنة ليست هي نفسها تلك المرتبطة بأفق زمني يُجاوز التسعين أو المئة سنة، وذلك إذن هو التحدّي المعرفي (العلمي والفلسفي) الذي ينشأ أمام العقل والدين معاً.